التاریخ مطیة المنتصرین- روایات مشوهة وجرائم بلا محاسبة

المؤلف: سعد القرش11.14.2025
التاریخ مطیة المنتصرین- روایات مشوهة وجرائم بلا محاسبة

ماذا لو كتب التاريخ بنصر النازية، وتغاضى عن جرائم هتلر؟ أي مصير ينتظر العالم؟
إن السؤال المحوري يتعلق بوجود "الحقيقة" المجردة، تلك التي لا تتأثر بمرور الزمن وتقلباته. لا يتعلق الأمر بتقييم الشخصيات التاريخية المثيرة للجدل، كأخناتون، الذي انقسم حوله المؤرخون بين رؤيته كنبي ورائد، أو اعتباره ملكًا ضعيفًا أوهن الدولة.
الحقيقة الجلية هي أن حكمه قد انهار فعليًا، وأن الدولة كادت تتهاوى لولا بسالة وقوة قائد جيشه، حور محب. باستثناء هذه "الحقيقة" الموضوعية المتمثلة في سقوط أخناتون، يظل التاريخ أداة طيّعة في أيدي المنتصرين، يسطرونه وفقًا لأهوائهم، ويُملونه على الكُتّاب، ليقدسه بعد ذلك السذج والبسطاء .

من كان يتصور، في بدايات الربيع العربي عام 2011، أن يمتد حكم بشار الأسد إلى هذا الحد، وأن يشارك في القمة العربية المنعقدة في جدة، في شهر مايو من عام 2023، وأن يحضر القمة العربية والإسلامية المشتركة التي انعقدت في الرياض في شهر نوفمبر من العام نفسه؟
الملايين من الضحايا الذين قضوا نحبهم في القبور أو نزحوا إلى المنافي، خلال سنوات الحرب الطويلة، كانوا يتوقعون له نهاية أخرى. لا شك أن "حضوره" في هذه المحافل الدولية يثير قلق أرواح الأبرياء الذين شاهدوا مصير صدام حسين، كيف أُلقي القبض عليه في العراق على يد قوات الاحتلال الأمريكية، وكيف أُخرجت من الأرشيف قضية الدجيل، لتكون بمثابة جواز مرور إلى حبل المشنقة. فكيف سيتم تدوين فصول المأساة السورية؟ وكيف ستُكتب وقائعها المروعة؟
إن الطغاة دائمًا ما يخشون الحقيقة، ويهابون سطوتها. ففي فيلم "عمر المختار"، يخاطب ضابط صغير قائده، وهما منهمكان في قمع الثوار و"المتمردين" والتنكيل بهم، قائلًا:

  • ألا تخشى أن يسجل لنا التاريخ هذه الفظائع التي نرتكبها؟
    فيرد القائد بكل استخفاف:
  • الخوف كل الخوف أن تنسانا روما، وأن يمحو ذكرنا من الوجود.

هيكل ومبارك وبينهما الفقي

واقعة قريبة العهد، رواها طرفان بأسلوبين مختلفين و بمنظورين متباينين. في كتابه "مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان" الذي صدر عام 2012، ذكر الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل أنه كان منهمكًا في إعداد كتابه "حرب الخليج" الذي نُشر عام 1992. في تلك الأثناء، تلقى اتصالًا من الرئيس حسني مبارك، بعد انقطاع طويل، وسأله مباشرة عن صحة ما نشرته الصحف حول سفره لمقابلة الملك حسين، معللًا سؤاله بأن هيكل كان بصدد كتابة كتاب عن حرب الخليج!

أجابه هيكل بأنه بالفعل سيقابل الملك الأردني وغيره من الشخصيات المعنية، فرد مبارك قائلًا: "الملك سوف يكذب عليك ويضللك". وبعد عودة هيكل إلى القاهرة، اتصل به مبارك مرة أخرى، وسأله بالأسلوب المباشر نفسه: "هل كذب عليك الملك، وروى لك ما يشاء من الأكاذيب ليبرر موقفه؟!". ثم بادر مبارك بإطلاع هيكل على ملفات الرئاسة السرية الخاصة بحرب الخليج، مشترطًا "عدم تصويرها"، وأن يتم إرسالها على مراحل مع مصطفى الفقي، سكرتير الرئيس للمعلومات. وكلما انتهى هيكل من قراءة جزء، أرسل إليه الفقي بالجزء التالي.

فتح الفقي الدفعة الأولى من الملفات، وانكب هيكل على القراءة بشغف، ثم صارح الفقي بأنه يكتفي بما قرأ، معتبرًا أن الملفات تبدو "مكتوبة بأثر رجعي"، أي بعد انتهاء الحرب، و"محررة بتوجيه مسبق، لكي ترسم صورة معينة قد لا تكون متطابقة مع حقيقة ما جرى على أرض الواقع!".

خبرة هيكل الطويلة في قراءة الوثائق وتقييمها، دفعته إلى العزوف عن استكمال قراءة ما سيحمله إليه الفقي في الأيام التالية، وفضّل أن يعتمد في كتابته على ما يتوصل إليه بنفسه من استنتاجات، لا على ما يُقدم إليه من معلومات يشكّ في صحتها وموثوقيتها. فقد رأى أن قراءته للملفات ستقيّده وتلزمه بتبني وجهة نظر قد لا يقتنع بها. فأعاد الفقي الأوراق إلى الحقيبة، وقال بإيجاز شديد: "لا تعتمد فيما تكتب إلا على ما تثق فيه، ولا تسألني أكثر من ذلك!".

صدر الكتاب بعد ذلك، وأثار غضب مبارك. وفي حفل عشاء أقيم عند صديق مشترك، همس الفقي في أذن هيكل قائلًا: "لا تجعل شيئًا مما يقال يضايقك، الحق كان معك، والواقع كما أعرفه من موقعي أفظع بكثير من أي شيء ذكرته في كتابك!".

هذه هي رواية هيكل لواقعة شغلت أكثر من خمس صفحات في كتاب صدر في حياة مبارك. ولكن بعد وفاة كل من هيكل ومبارك، روى الفقي الواقعة نفسها في سيرته الذاتية التي حملت عنوان "الرواية.. رحلة الزمان والمكان" والتي صدرت عام 2021، ولكن بإيجاز شديد لا يتجاوز سبعة أسطر. قال الفقي في روايته: إن هيكل طلب إليه الاطلاع على الرسائل المتبادلة بين مبارك وصدام حسين، فاستأذن الفقي مبارك وأقنعه بأنه "من غير المستحب أن نحجب عن هيكل ما لدينا من معلومات، بعد لقائه بالملك حسين"، فوافق الرئيس مبارك على ذلك. ويضيف الفقي قائلًا: "والطريف في الأمر أن هيكل عندما اطلع على الرسائل، تصفحها في دقائق معدودة، دون أدنى اهتمام، وأعادها إليّ شاكرًا، وقال لي: ليس فيها أي جديد".

فأي الروايتين نصدق؟ في حياة مبارك، نشر هيكل رواية مفصلة ومحددة، طرفاها الرئيس مبارك والصحفي هيكل، ويشهد عليها مصطفى الفقي. ولكن الفقي انتظر موت هيكل ليكتب رواية أخرى يضع فيها نفسه في صورة "الجسر" الذي ربط بين هيكل والرئيس.

السياق هنا أوسع وأعمق من مجرد الاطلاع على "وثائق". فرواية هيكل تجسد علاقة ندية بين صحفي كبير ورئيس دولة يبادر بالاتصال به شخصيًا، لعله يخشى أن تظهر رواية أخرى من خارج الحدود تنتقد أو تنقض ما أمر هو بكتابته بعد انتهاء المعركة. ثم يعاود الرئيس الاتصال بالصحفي للاستفسار عن الرواية الأخرى وتقييم تأثيرها المحتمل.

لم يردّ مبارك أو الفقي على رواية هيكل التي نُشرت عام 2012. ولكن الرواية الموجزة التي كتبها الفقي في سيرته الذاتية، والتي لم تتجاوز سبعة أسطر، تجاهلت هذه التفاصيل الهامة، وأسقطت همس الفقي عن واقع "أفظع بكثير" مما كتبه هيكل في كتابه.

بين كتابة التاريخ ومحاسبة صناعه

في عالمنا المعاصر، نجد صعوبة بالغة في الاتفاق على رواية واحدة لحدث واحد. فكيف لنا أن نثق برواية يكتبها المنتصرون، وهم في الأساس صنّاع هذا الحدث؟

إن الجنون الذي مارسته أمريكا في فيتنام كفيل بتقديم المسؤولين عن تلك الجرائم إلى المحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. يذكر المؤرخ الأمريكي البارز هوارد زِن في كتابه "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة" أن المخابرات الأمريكية قد أعدمت سرًا، في إطار برنامج سري أُطلق عليه اسم "عملية العنقاء"، أكثر من عشرين ألف مدني فيتنامي، لمجرد الشك في انتمائهم إلى منظمات شيوعية سرية.

ويشير زِن إلى أن أمريكا ألقت على فيتنام سبعة ملايين طن من القنابل، وهو رقم "يتجاوز بأكثر من الضعفين إجمالي كمية القنابل التي أُلقيت على أوروبا وآسيا خلال الحرب العالمية الثانية. وهذا يعني أن كل فرد في فيتنام قد تلقى ما يعادل قنبلة تزن خمسمئة رطل!". ويضيف أن الطائرات الأمريكية ألقت غازات سامة لإبادة الغابات، مما أدى إلى تغطية منطقة تضاهي ولاية ماساتشوستس بهذه الغازات السامة، فضلًا عن التشوهات الخلقية التي أصابت الأطفال.

ويوثق هوارد زِن في كتابه الذي ترجمه الدكتور شعبان مكاوي (1963-2005)، واقعة مروعة أخرى، حيث قام جنود أمريكيون في 16 مارس 1968 بتطويق سكان قرية ماي لاي الفيتنامية، بمن فيهم كبار السن والرضع، وأمروهم بالنزول إلى خندق كبير، ثم قاموا بقتلهم جميعًا بوحشية. ويذكر الجندي جيمس دورسي في شهادته أثناء المحاكمة: "كان الناس يغرقون تحت بعضهم البعض، وكانت الأمهات تحاولن حماية أطفالهن". ويضيف أن الضابط كاللي أمر الجندي بول دي ميدلو بإطلاق النار، وهو نفسه "الجندي الذي كان يطعم الأطفال الشوكولاتة قبل أن يطلق الرصاص عليهم". ويؤكد دورسي أن الجندي كان يطلق النار وهو يبكي.

وينقل هوارد زِن عن الصحفي الأمريكي سيمور هيرش، الذي تقصّى تفاصيل مذبحة ماي لاي، أنهم عثروا على مقابر جماعية في ثلاثة مواقع مختلفة، بالإضافة إلى خندق مكدس بنحو 500 جثة، "معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن". وينقل هيرش أيضًا قول جندي أمريكي في رسالة بعث بها إلى أسرته: "كنا اليوم في مهمة وأشعر بالخزي من نفسي ومن أصدقائي ومن بلدي. لقد أحرقنا كل كوخ وقعت عليه أعيننا. كانت هذه شبكة صغيرة من القرى، وسكانها فقراء مدقعون. قامت وحدتي بحرق ممتلكات هؤلاء الفقراء وسلبها... كان الكل يبكي ويتوسل إلينا بألا نفصل بينهم بأخذ الآباء والأزواج والأبناء والأجداد. وكانت النساء تبكي وتنوح. كانوا ينظرون إلينا في رعب ونحن نحرق منازلهم وممتلكاتهم الشخصية وطعامهم. نعم كنا نحرق الأرز ونقتل الماشية".

وتكشف النسخة الصهيونية من الجريمة الأمريكية عن جانب آخر من الفظائع التي ارتُكبت. فقد ذكر رئيس وزراء إسرائيل الأسبق موشي شاريت في كتابه "إرهاب إسرائيل المقدس"، الذي قامت بتحليله الكاتبة الإسرائيلية ليڤيا روكاش، شهادة لجندي شارك في احتلال قرية الدوايمة الفلسطينية عام 1948، حيث قال: "قتلت ما بين 80 إلى 100 عربي، من النساء والأطفال. ولكي يقتلوا الأطفال، كانوا يقومون بتحطيم رؤوسهم بالعصي. لم يكن هناك منزل واحد يخلو من الجثث... أمر قائدنا بإحضار امرأتين إلى المنزل الذي كان على وشك تفجيره... جندي آخر تباهى بأنه اغتصب امرأة عربية قبل أن يطلق النار عليها ويقتلها. أمر الجنود امرأة عربية أخرى تحمل رضيعها بتنظيف المكان لمدة يومين، وبعد ذلك أطلقوا النار عليها وعلى طفلها".

من البريرية إلى الاضمحلال

أعود إلى السؤال الذي طرحته في البداية: ماذا لو انتصرت النازية، ولو ضحّى النظام بزعيمه هتلر من أجل استمرارها؟
لاشك أننا كنا سنشهد مشهدًا مختلفًا تمامًا، ومحاكمات أخرى، وتفاصيل مغايرة على خريطة العالم. ولكن الحمد لله أن النازية قد سقطت، وإن صعدت في المقابل نازيات جديدة بأشكال مختلفة. والمؤسف أن إسرائيل لم تُحاسب على جرائمها ضد الإنسانية، ولا الولايات المتحدة التي قتلت نحو خمسة ملايين فيتنامي، وأحرقت 37 مليون فدان من الأراضي الزراعية والغابات، وخلفت 55 ألف قتيل أمريكي، كل ذلك من أجل تأكيد قوتها وهيمنتها، وخدمة مصالح رأس المال، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر بقوله: "على الولايات المتحدة أن تقوم ببعض الأفعال في مكان ما بالعالم لتأكيد استمرارها كقوة عالمية".

كان بإمكان أمريكا أن تتجنب إلقاء القنبلتين النوويتين على اليابان التي كانت على وشك الاستسلام. وكان بإمكانها هي وحلفاؤها ألا ينسفوا مدينة دريسدن الألمانية، تلك الجريمة الاستعراضية التي ارتكبوها بلا داعٍ، في الوقت الذي كانت الحرب فيه على وشك النهاية وهتلر على حافة الهاوية. يذكر هوارد زِن أن درجة الحرارة الناتجة عن القصف قد أودت بحياة مئة ألف ألماني.

وخلاصة القول أن السلوك الأمريكي الإمبريالي يؤكد المقولة الشهيرة التي تصفها بأنها الدولة الوحيدة التي ستنتقل من البربرية إلى الاضمحلال، دون أن تمر بمرحلة الحضارة. ويُرجح أن قائل هذه المقولة هو الكاتب والشاعر الأيرلندي الشهير أوسكار وايلد. أما إسرائيل فليست سوى جيش تحيط به مجتمع، على غرار عائلات جنود الاحتلال البريطاني في مصر. ففي البداية، جاءت العصابات الصهيونية المسلحة إلى فلسطين، قبل أن يتم استقدام "الشعب" من مختلف أنحاء العالم. إنها الكيان الوحيد في التاريخ الذي يستجدي "مواطنين" له، ولا بقاء للقطاء.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة